مجتمع المقاومة في العهد التكنوتروني الجزء الثالث

Publié le par abdouni abdelali

مجتمع المقاومة في العهد التكنوتروني الجزء الثالث

المبحث الثالث: آليات تحصين مجتمع المقاومة دولتيا:

عرفت المائة سنة الأخيرة تحولا أساسيا في ديناميات تكون المجتمعات وسيرورتها وكذا صيرورتها، بعد دخول التكنولوجيا على خط البناء الأساسي للحياة الاجتماعية، مما أدى إلى وقوع تفكك قد لا يتوافق مع الأطر التأريخية.

فأمام هذه المتغيرات لم يعد الضبط بما هو آلية قهرية فعالا، ولا أضحى من الممكن التحكم في تسييل المعلومات الموجبة دون غيرها السالبة، وهو انفتاح كلياني جعل المجتمع أي مجتمع يقف أمامه بمقتضى طاقاته الذاتية، وقدرة مناعته الخلاقة على حسن التدبر فيه وتدبيره في نفس الآن.

ووقع اختيارنا على العهد التكنوتروني – رغم أننا على مشارف عهد رقمي جديد – لاعتبارين، أولهما أن هذا العهد لا زال فعالا ومستمرا ولو في رحم العهد الرقمي الجديد، ثانيهما أنه مالك لناصية التدبير الواقعي فعليا، لأن العهد الرقمي يفتح مجالا تواصليا فعالا، لكنه لا يملك الكلمة على الأرض فعليا.

فالتسارع التكنولوجي أدى إلى ضرب كشط على مرحلة تأريخية كاملة، حيث جعل الترابط بين الأمم والمجتمعات يتم بسرعة فاقت كل التصورات، لتجعل ما يحدث في منطقة ما، تتابعه منطقة جغرافية تبعد عنه بآلاف الأميال دقيقة بدقيقة، مما أدى إلى إعادة هندسة سياسة الفعل والانفعال، في كل الشبكات الاجتماعية، وأضحينا أمام مفارقة غريبة وهي أنه في نفس اللحظة التوحدية عالميا من جهة متابعة الأحداث، أضحينا أمام مفارقة التشذر الذري في نفس هذا العالم.

يقول زبيغنيو بريجنسكي " تكمن المفارقة في عصرنا الحالي أن البشرية أصبحت في وقت واحد أكثر توحدا وأكثر تجزؤا، وهذا هو التوجه الرئيس للتغيير المعاصر، الزمان والمكان أضحى مضغوطا إلى درجة أن السياسة العالمية تعبر عن ميل أساسي نحو الكبر، ووسائل متشابكة للتعاون، والقضاء على الولاءات المؤسساتية والإيديولوجية، في حين أن أصبحت الإنسانية أكثر تجزءا وحميمية مع موائزها ليصير التوتر البيني هو الغالب. " ( [8] )، وهذه حقيقة لا تحتاج إلى كبير استدلال لأن معاينة الأوضاع العالمية يؤكد ارتفاع منسوب الهوية بمختلف تمفصلات وتجلياتها لتحديد ديناميات الحركات الاجتماعية.

وإذا ما جعلنا هذه الضابطة قائمة بيني وبين القارئ، فإننا نكون في مجتمع المقاومة أمام حالة هوياتية خاصة، تتوافق مع المد الهوياتي الذي غزا العالم، إلا أن خصيصتها متحيزة خارج الأطر العامة والمتعارف عليها من إثنية ودينية وحتى مذهبية، بل هي أقرب إلى تأصيل معرفي مضاد يقف على خط التناقض مع المد العولمي، تناطحه في سقف الوجود الإيديولوجي وحسب.

لكنها وكأي تمثل فيزيقي لإديولوجية، تستعين بأدوات عملانية لتصريف تصوراتها، سواء على حد القتال أو على حد التدبير السياسي للفضاء العمومي الذي توجد في إطاره.

وبما أن مفروض بحثنا هو تحصين مجتمع المقاومة، فإننا سنكتفي ببحث الجنبة الثانية من الموضوع، والمتعلقة بتدبير الفضاء العمومي ( أو المجال العام )، بشكل يجعل هكذا مجتمع محصن من الحراك العولمي الناقض له بالضرورة.

مجال واحد وطبقتين:

سبق أن أوضحنا بأن مجتمع المقاومة هو مجتمع جزئي داخل مجتمع كلي دولتي، وهذا الأخير جزئي داخل مجتمع كلي عالمي، ولكل هذه المجتمعات حركة سيرها، وتعرف انسيابا في الانفعال بحسب دائرتها، وكذا بحسب قدرتها في الفعالية بخصوص ما يعلوها من طبقة اجتماعية كلية. ( [9] )

لذلك سوف نستعين بإطار مفاهيمي – ليس حاكما ولا مانعا لغيره من الأطر المفاهيمية – قائم على تدوير الهرم المعرفي، وفق المجالات التي يتناسب له التحرك بها.

إلا أننا ابتداءا نرى من المناسب البداية بتحديد الطبقات وكيفية التعامل لتحصين مجتمع المقاومة، والتي حددنا في ثلاث مرجوعها إلى مساحة كل مجتمع، على أن نكتفي في هذه الورقة بحث الطبقة الأولى وهي طبقة مجتمع المقاومة بوصفها مجتمع جزئي دولتي، وطبقة مجتمع الوطن بوصفه مجتمع كلي دولتي، ونرجئ بحث الطبقة الثالثة إلى ورقة مستقلة لما فيها من تداخلات وتعقيدات كثيرة.

الطبقة الأولى: مجتمع المقاومة بما هو هو:

في هرمية التدبير دائما ما يتم وضع القاعدة الشعبية ضمن قاعدة الهرم، على أن يعرف ذلك تطبقا في الأدوار لينتهي بنا الدور إلى رأس الهرم، حيث يقف التنظيم المقاوم بما هو تنظيم أساسي يعمد إلى السيطرة والتنفيذ لمرغوبات القاعدة الاجتماعية.

هذا هو الهرم الاجتماعي المتعارف عليه في المدارس الاجتماعية والسياسية بمختلف أشكالها.

إلا أنه في حالة مجتمع المقاومة، لا يمكن الحديث عن معامل سيطرة أو تنفيذ خارج دائرة " القوة الاجتماعية القاعدية " التي هي تحدد من يمثلها في الفضاء العمومي الخاص بها، مما يضطر التنظيم أن يتحرك كما الأحزاب السياسية، يحاول أن يقنع هذه القاعدة الاجتماعية بمحورية دوره لتحقيق مطالبها.

فيكون بالضرورة ليس في رأس الهرم واقعا بل في وسطه، لأنه يتحرك كما أي تمثل سياسي تواصلي مع غيره من التمثلات السياسية لبناء جهاز أساسي حاكم له الأثر الفاعل في داخل مجتمع المقاومة. ( [10] )

وهنا الإعضال الأساسي ينفتح ذلك أن هذا التنظيم المقاوم لا يحمل أكثر من دور شريك إلى باقي التمثلات السياسية داخل نفس المجتمع، مما يجعل من القاعدة الاجتماعية هي الباتة في داخل جغرافيتها.

ولهكذا وضع، نتيجتان أساسيتان، أولاهما أنها تسمح بحركة الثقافة السياسية الوضعانية إلى التوغل عميقا في المجتمع المقاوم، لأن التوافق يبنى على الحد الأدنى المشترك دون الحد الأقصى ألا هو المقاومة.

والنتيجة الثانية، وهي الأهم أنه يتم تجزء تدبير الفضاء العام الخاص بمجتمع المقاومة بين مختلف تأثيرات الثقافات السياسية المتحكمة، مما يفتح الباب أمام آليات تدبيرية وضعانية للتحرك جنبا إلى جنب.

فرأس الهرم الاجتماعي السياسي يكون توافقيا بالضرورة، ومبني على اتفاقات أفقية تحمي الحد الأدنى دون أن تعضد الحد الأقصى، وهي حالة طبيعية مرجوعها إلى تنوع الأطر الفكرية المختلفة التي تهندس المشهد السياسي العام.

لكن لهذه الخصيصة أثرا عميقا وهادئا قد يتراخى أثره في الزمن دون أن ينمحي بالمطلق وهو " معامل التعددية الإيديولوجية "، يظل لحامه التوافق دائما وأبدا دون الاتفاق، والذي قد ينفصم في أي زمن استراتيجي جديد.

مما يجعل من رأس الهرم ليس حاميا بالضرورة لقناعات " القوة القاعدية الاجتماعية "، ما دامت التوافقات تتم خارج دائرة الاعتبار السياسي للأخيرة، فأقصى ما يمكن التعويل عليه في هكذا أوضاع هو معامل الثقة في " التمثلات السياسية التعددية " وبأنها ستختار التوافق حول الأفضل.

لكن معامل الثقة، هو معامل متحرك يتأثر بمتحولات المنطقة بالضرورة، ما دام المجتمع نفسه قد دخل الخطاطة العولمية من حيث أراد أو لم يرد.

فيكون الأولى قلب الهرم الاجتماعي داخل مجتمع المقاومة بوصفه ذو مائز معرفي حضاري، بجعل التمثلات السياسية في قاعدة الهرم، ورفع القوة الاجتماعية القاعدية إلى رأس الهرم، بوصفها هي صاحبة القرار حقيقة، وهي المخزون الإنساني الأساسي للتنظيم المقاوم، عن طريق خلق " مؤسسة اجتماعية ذات تعبير سياسي " تفتح لها فروعا في مجمل الدوائر الاجتماعية داخل مجتمع المقاومة لمدارسة خرائطها المطلبية، وتوضيب ما تراه مناسبا لتتحول إلى جماعة ضاغطة على التمثلات السياسية، تساعد الأخيرة في رسم القرارات المناسبة بشكل يحمي المجتمع فعليا، دون الانطلاق من تصورات متمعيرة بعيدة عن أرض الواقع.

رب قائل بأن هكذا قرار هو انتحار جماعي لا محالة، لأنه ما دام مجتمع المقاومة مدخول بمجمل التصورات المحلية والوطنية والعالمية، فإنه سيتحول إلى معامل " ضغط " ضد مشروع المقاومة.

لكن هكذا تخوف ينهار من تلقاء ذاته، إذا فهمنا بأن الذاكرة الجمعية لمجتمع المقاومة دفعته إلى تبني المقاومة، ليس من جهة أنها الخيار الأوحد للكرامة وحسب، بل من جهة أنها الخيار الأوحد لحماية الحقوق الشخصية للأفراد. فتتحول دائرة الفعالية داخل مجتمع المقاومة إلى " القوة الاجتماعية القاعدية " التي تضغط في اتجاه إنهاء التوافقات البينية، والتي قد تضرب عميقا إسفينا للتشذر الداخلي الذي لن يتوقف عن التوسع في المستقبل.

فمنبع الحماية هو القاعدة الشعبية داخل مجتمع المقاومة، التي يجب أن تتحول إلى رأس الهرم، على أن يحافظ التنظيم المقاوم على وسطيته، وفي قاع الهرم الجهاز التدبيري التوافقي، أي أننا أمام هرم مقلوب.

الطبقة الثانية: المجتمع الكلي الدولتي بما هو مجال فعالية أساسية:

على هذا المستوى نكون أمام تحدي أساسي، لأن مجتمع المقاومة لا يمكنه أن يحافظ على مائزيته، داخل وسط تعددي عدائي، لأن المحصلة ستكون هي الاحتقان دائما وأبدا، وتدبير للصراعات البينية داخل هذا المجتمع الكلي، مما يفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية لتصريف مصالحها داخل جو الاحتقان هذا.

كما أنه ليس من المستحب بناء توافقات بينية، سريعا ما تنفصم عند المساس بالأصل الحيوي لكل مائز اجتماعي، وهذا ما نشاهده وما سوف نظل نشاهده.

فيكون حريا الدخول في هذا المجتمع بجعل المقاومة رأس البناء المفاهيمي التدبيري في قلبه، بمعنى أننا نكون أمام حالة اختراق فعلي جواني، حيث استراتيجية القوة الناعمة يلزم تفعيلها تحت أي شرط.

يتم تعريف القوة بأنها القدرة على فعل شيء ومنع الآخر من تحوز نفس القدرة، فهي تحمل جنبتان إحداهما إيجابية وهي القدرة على فعل شيء تحت الإكراه أو الإقناع أو الجاذبية، والثانية سلبية بوصفها تنبني على سلب نفس القدرة عن الغير.

يعرف جوزيف ناي القوة بأنها " امتلاك كميات كثيرة نسبيا من عناصر كالسكان، والإقليم الجغرافي، والموارد الطبيعية، والقوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، والاستقرار السياسي " ( [11] ) تتكامل جميعا لتكفل القدرة على فرض التصور ومنع الآخر من الاقتدار عليك فهي عملية ثنائية لا تقوم إذا انتفت إحدى جانبيها، إلا أنه يعيب على الطرح الصلد للقوة بأنه لا يهتم كثيرا إلى باقي مصاديق القوة والتي أسماها ب " القوة الناعمة " التي تتقوم على معامل الجاذبية الحضارية وإرادة الغير في التقمص، والتي تظل الأقل كلفة في جميع الأحوال من استعمالات القوة العسكرية.

طبعا ناي لا يلغي المقدرة العسكرية من المعادلة بقدر ما يريد تطعيمها بالجانب الجذاب فيما أسماه القيم الأمريكية والأخلاق الأمريكية والثقافة الأمريكية. إلا أنه وأمام الانسدادات التطبيقية الكثيرة التي وقفت أمام ناظريه لأنه تيقن بأن العالم يكره الولايات المتحدة الأمريكية ويكره سياستها حتى من قبل من يحسبون على الأصدقاء، طوع نظريته إلى سقف ثاني أسماه ب " القوة الذكية " التي تجمع بين القوة الصلدة والقوة الناعمة ضمن الحراك الاستراتيجي والسياسي للولايات المتحدة الأمريكية.

فجوزيف ناي ينطلق من مقدمة أساسية أو لنقل عقيدة أساسية وهي " لعل أمريكا أقوى من أي دولة أخرى منذ الإمبراطورية الرومانية، ولكن أمريكا مثل روما ليست قوة لا تقهر، ولا هي عديمة التعرض للعطب والانكشاف، فروما لم تخضع لنشوء إمبراطورية أخرى، ولكنها تداعت أمام موجة من هجمات البرابرة، والإرهابيون المستخدمون للتقنيات الحديثة العليا هم البرابرة الجدد. " ( [12] ) فناي يرى المطابقة في القوة بين الإمبراطورية الرومانية والولايات المتحدة الأمريكية، وهكذا تشبيه ليس ملتصقا بعنوان القوة كما قد يتبادر إلى الذهن بل هو نفسيا أبعد، لأن المطابقة تهم حيثية " الإمبراطورية " بالأساس، و " البربرية " في الأعداء وهو تصنيف قيمي يرتكز عليه ناي للدفاع عن جهاز القوة الناعمة التي يراها الأكثر نفعا لأنها تقلل من تكاليف الإكراه أو مصاريف الإغراء عن طريق الإغواء.

فالقوة الناعمة ترتكز على ثلاثة موارد هي " ثقافته ( في الأماكن التي تكون فيها جذابة للآخرين )، وقيمه السياسية ( عندما يطبقها بإخلاص في الداخل والخارج )، وسياساته الخارجية ( عندما يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية أخلاقية ). " ( [13] )

وهنا بالذات نرى بأنه كنسق فكري يبحث عن حتميات تسد حلقة فكره من البناء القيمي إلى البناء الحركي إلى البناء الوظيفي، تتكدس كلها تحت مسمى " الإمبراطورية "، والملاحظ على جوزيف ناي أنه لا يهتم بمباني ( الثقافة ) أو ( السياسة الخارجية ) أو ( القيم السياسية ) من حيث هي حاملة للكرامة والتعددية وغيرها من الأبعاد التعايشية في مجتمع متغير ومتعدد، بل لا يرى أهميتها إلا في مصداق تطبيقها بالحذافير، وطبعا هو يحاول الهرب من مشروع التبرير لمباني هذه الزوايا الثلاث، لأن الثقافة الأمريكية نفسها تعرف معضلة اعتداد عقلي، ولا زالت واقعة في مخاض لا يتوقف نهائيا، كما أن القيم السياسية التي يشير إليها لم تعرف نهائيا توحدا فكريا ولا السياسة الخارجية أبان عن مضمونها، فالجنبة الوظيفية كانت هي المعتملة في تصوره لا الجنبة المبنائية.

وطبعا أخذه لهذا المنحى يهدف بالأساس للسماح بتصوره بالاشتغال على جميع المستويات ويتفاعل مع التنويع السياسي داخل الولايات المتحدة الأمريكية.

تم طرح هذا التصور للإبانة على أن المشروع الأمريكي لا يهتم بالحيثية العسكرية لتدبير قوته في العالم، بقدر ما يشتغل على مجمل المجالات بما فيها المعرفية لخلق " جسر إمداد " لقدراته في العالم، بشكل يسمح لها بالسيطرة دون كثير من العناء.

ومن هنا يكون من المناسب للمقاومة أن تشتغل على تنويع مقومات قوتها في جميع المجالات، وعلى رأسها إبداع " رؤية معرفية " جديدة تشكل آلية استقراء لكل ما يحدث في العالم وفي المنطقة، وتتحول من مدرسة قتالية ناجحة إلى مدرسة معرفية ناجحة، تكفيها مؤونة تدبير سوء التفاهم الذي يتسع عندما يتم التحرك في المناطق الأكثر حساسية في المنطقة.

كأن تتحرك في وضع نظرية خاصة تساعدها في قراءة المتحولات الدولية والمناطقية خارج التوجهات الفكرية الغربية، وتقوم بتأصيل نظري " مغلق " كما النسق الذي يبني نفسه بنفسه.

فالاقتراب من النسيج الاجتماعي العربي والإسلامي يستلزم تحويل " المقاومة " إلى سلوك حياة لا إلى وجود تعيني في مواجهة الكيان الصهيوني وحسب، لأن البعد الجغرافي قد يقف عائقا في تدوير الفكرة في أوسع دائرة ممكنة.

فالمقاومة بما هي وجود فكراني وفيزيقي في نفس الآن تظل مدخولة بمجمل التجليات الوجودية المعادية، بمعنى أن الأرضية الاستعدائية ليست بجغرافية مكان بقدر ما هي جغرافية فكر، ولا يتناسب الاستمرار في الوجود المقاوم بدون لعبة تنظيرية تشتغل على أدوات أنطولوجية عالية الجودة تضمن لها ليس فقط تعضيد وجودها وحسب، بل وإثارة تغيرات فكرية في الوجودات الأخرى.

إلا أن خصوصية المقاومة في هذا المقام أنها لن تعتمد نقاط قوتها الناعمة الذاتية، لتسييل تصوراتها في قلب المجتمع الكلي وحسب، بل ستلعب دور " مثير " دفائن التأريخ المقاوم لمجمل المجتمع الكلي الدولتي، بوصفه مكنزا تأريخيا عاضدا، وخصوصا أن الذاكرة الجمعية هي أكبر " منصة " اقتدار يمكن أن خلقها، والتي تقف حائط صد أمام مجمل عمليات الاختراق الخارجية.

لتتحول المقاومة من مائز لمجتمع جزئي دولتي، إلى مائز لمجتمع كلي دولتي، صحيح أن هكذا مشروع يحتاج إلى مساحة زمنية قد تطول، لكن هذا ليس مانعا من أن يقوم بشيء الآن وهنا.

من الآلية الاستراتيجية إلى الآلية اللوجيستية:

أي تنظيم مقاوم يدافع عن تصوراته بمتغيرات حدثية دراماتيكية كانت أو لم تكن، يحكم على نفسه بأن يتحول إلى مكون مقاوم متحول خاضع لربقة الوقائع، لا إلى بوصلة الفكرة.

وهي مشكلة أساسية لأن القوى الكبرى لا تتحرك في رحم الوقائع إلا بالفكرة التي يتم تمريرها وفق قنوات معرفية متكثرة ومتناسلة، تساعد في خلق اختراق ذي بال، أما الوقائع فهي تأتي ثمرة لتأكيد مضامين الفكرة ليس إلا.

فثمة فارق كبير في التأصيل على الفكرة المقاومة التي لا تخضع للوقائع حكما، وبين التأصيل على الفكرة المقاومة المرتهنة للوقائع دائما وأبدا.

وعليه فإنه يكون من المنطقي التركيز على الفكرة المقاومة دائما وأبدا، وعدم ربطها بالوقائع إلا من جهة أنها تؤكد مباني الفكرة، لا من جهة أنها تعيد مراجعة مبانيها.

حيث يضحي التعامل مع المتحولات الإقليمية والمحلية لوجيستيا لا استراتيجيا، لأنها لا تقضم من أصل الفكرة المقاومة، بقدر ما تعضدها " استدلاليا " وحسب.

وواقعا يمكن رصد مجموعة حالات تنظيمية قلبت المتحولات الاقليمية إلى تصور استراتيجي، بنت عليها مجموعة قرارات خاطئة انهارت بعد فترة زمنية قصيرة جدا، إلى أن أدى كل ذلك إلى تولد أزمة مبنائية تتعلق بالرجوع إلى " الكنف " الممانع، ووقوف معامل " الثقة " كتحدي أساسي لمناقشة مبدأ الرجوع.

فالآلية اللوجيستية في استفهام المتحولات الإقليمية، تساعد في تحييزها ضمن سقفها الأوسطي، لا رفعها إلى سقف استراتيجي يؤدي إلى تحقيق تغييرات بنيوية في أصل الفكرة.

فاستجماع هذين البعدين الأساسيين يؤديان إلى تحقق " النمط العميق " للتنظيم المقاوم، بتحوله إلى سقف نظري وعملي في نفس الآن، دون ارتهانه إلى جغرافية معينة أو حتى قضية معينة، بل يتحول إلى سياج فكري استراتيجي يسمح بحصانة البيئة الدولية ضد التوغل المعرفي الأمريكي، وفي نفس الآن وبشكل ارتدادي يؤدي إلى حماية البيئة الطبيعية للمقاومة، ولمجتمعها في نفس الآن.

 

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article