الجمهورية الإسلامية وخلفية صراع المناهج التغالبية:

Publié le par abdouni abdelali

الجمهورية الإسلامية وخلفية صراع المناهج التغالبية:

 

نظرا لفشل جمهورية فيمار والتي تولدت على أساس ديموقراطي بعد انهيار الامبراطورية الألمانية خلال الحرب العالمية الأولى والتي مهدت لنجاح الطرح النازي، تناسلت الأبحاث والدراسات الحقوقية بين تياري الوضعانية القانونية والقانون الطبيعي، واشتد الصراع إلى مقام الدخول في تفاصيل " مفهوم الدولة " و " البرلمان " و " الديموقراطية " و " السيادة الوطنية " وغيرها من مفاصل تدبير السياسات العمومية، وتصدى لهذا الصراع النظري فطاحلة الفكر القانوني الألماني الذين يجمعهم ليس فقط الجنسية الألمانية وحسب، بل الاقتدار الفكري للدفاع عن التصورات اللائي يتبنونها.

اشتهرت بمرحلة " صراع المناهج " methodenstreit querelle de méthodes وإن كان الإسم الأكمل لهذا الصراع هو Methoden- oder Richtungsstreit der Staatsrechtslehre ( صراع المناهج أو صراع المعنى في نظرية القانون العام ).

حيث أنه خلال مرحلة انهيار جمهورية فيمار، رأى مجموعة من الفقهاء القانونيين الفرصة المؤاتية لتسديد ضربة إلى الطرح الوضعاني الذي كان متزعما المشهد القانوني، فاشتغلوا على معنى الدولة وأدوارها بكيفية تنهي الهيمنة الوضعانية، حيث انضم للفريق الطبيعي كل من كارل شميت، وهيرمان هيلر، ورودولف سميند، وكوفمان، الذين تصدوا لهدم رؤية هانس كيلزن النمساوي والذي قدم كتابا حول نظرية الدولة متأصل بالكامل على البعد القانوني الوضعي، مما اعتبر استفزازا بالنسبة لتيار القانون الطبيعي.

طبعا وجد كيلزن الكثير من الفقهاء الألمان الذين دافعوا عن تصوره من بينهم غيرهارد أنشوتز وريشارد توما، وبهذا تكون اكتملت دورة التيارين.

التيار الطبيعي كان يهتم بترسيم أصول السيادة الوطنية ومنحها إطلاقية كاملة في تدبير الأزمات السياسية الداخلية والخارجية وتكميم معارف إنسانية من علم الإجتماع والعلوم السياسية لوضع لبنات " جهاز الدولة "، بخلاف التيار الوضعاني الذي حاول أن ينكب على السقف القانوني وحده وإعطاء معالم تأسيسية، قد لا تتناسب مع الواقع الإنساني بالضرورة، وتهميش مجمل المؤثرات المعرفية التي تقع خارج القانون. ( [1] )

المهم أن أول صراع مناهج حدث كان في أواخر القرن التاسع عشر داخل الخط الفكري الاقتصادي والذي جمع بين كل من كارل مينغر النمساوي و غوستاف شمولر، حيث سعى الأول إلى التخلص من كل الخلفيات الفكرية الغير الاقتصادية لوضع نظرية صافية بهذا الخصوص، في حين أن الثاني لا يبحث الفكر الاقتصادي إلا باستدخال المعارف الاجتماعية والتأريخية في طول الاقتصاد، وقد عمد مينغر إلى خلق ما سوف يسمى فيما بعد بالمدرسة النمساوية التي تتالت مع تلامذته من ميسز إلى أن وصل الدور إلى فريدريك هايك الفيلسوف القانوني والاقتصادي المعروف والذي قدم الكثير للطرح النيوليبرالي.

ما دام هو أحد المؤسسين الفعليين لهذا التوجه الفكري الذي يعتبر السوق هو الضابطة الأقوى لسير المجتمع، وبأن تدخل الدولة لن تؤدي إلا إلى نتائج كارثية، ولذلك يكون من المناسب إعطاء السوق كامل الحرية وكامل الصلاحية لتدبير أزماته الداخلية لأنه الأقدر على ذلك، وتطورت التصورات القانونية بهذا الخصوص، لأنه عقلا لا يمكن إمداد مثل هكذا فكر إلا بالدخول إلى الحرم القانوني والفلسفي السياسي، فتناسلت التصورات النيوليبرالية مع كل من ميلتون فريدمان الذي أوضح بأن حرية السوق تشكل أقوى لبنة لدمقرطة المجتمع، ومنح الحريات، وبأنه عن طريق خنق السوق تتوقف الحريات الاجتماعية، فتعقب تصوراته كل من القاضي ريشارد بوزنر وغاري بيكر ( تلميذ فريدمان ) اللذين أسسا التيار القانوني الجديد والذي يعرف تصاعدا مضطردا ضمن " تيار القانون والاقتصاد " وقيام الخط الليبرتالي على أعمدة فلسفية قوية بالنتاج الفكري لروبرت نوزيك الذي أصل للمبنى القانوني الفلسفي الجديد المسمى " الدولة ذات الحد الأدنى " The minimal state حيث لم يعد للدولة أي دور غير تعقب الجانحين وإيجاد أجواء مناسبة لتصرف السوق في المجتمع، والامتناع عن باقي أدوارها وتركها للسوق بوصفه الضابطة الأعلى. ( [2] )

فالدولة التي يدافع عنها الفيلسوف نوزيك لا يراها ترتفع عن سقف حماية الأمن وحماية العقود، مع ترك الدائرة الأوسع للسوق بوصف اليد الخفية هي التي تحافظ على التوازن، بعد أن أعاد مناقشة مفهوم العدالة التوزيعية التي تنبني على المقدرات الإنسانية وحركة العمل دون خلفية الرعاية. ( [3] ) وهذا المد الفكري تسرب بسرعة إلى المباني الفكرية في العلاقات الدولية حيث أضحت " السيادة الوطنية " على المحك، لأنها صارت أكبر عائق يمكن أن تعيشه القوى الكبرى في تمرير قراراتها وتطبيقها على الأرض.

السيادة الوطنية على المحك:

يتم تعريف السيادة الوطنية على أنها قدرة الدولة الوطنية على تدبير سياستها باقتدار سواء على المستوى الوطني أو الدولي في إطار من الحرية والاستقلال، فالوجه الداخلي للسيادة " تفيد فيه سيادة الدولة الداخلية تحديدها لنظامها بنفسها وسيطرتها على مواردها وسكانها، وعدم وجود سلطة أسمى من سلطتها، واحتكارها لسلطة الإكراه وللقوة المسلحة دون سائر المجموعات المتواجدة على إقليمهامن عائلات وأحاب ونقابات. " والوجه الخارجي " تعني فيه سيادة الدولة الخارجية عدم خضوعها لسلطة خارجية تحد من استقلالها ( بالاستعمار أو الانتداب أو الحماية أو الوصاية ) وإبرامها لمعاهدات متكافئة برضاها " ( [4] )

صحيح أن ثمة ضوابط قانونية دولية تؤدي واقعا إلى تقييد السيادة الوطنية لكن ثمة توجه فلسفي قانوني يريد أن يسقط هذه السيادة لفائدة مبدأ حق التدخل ولو في أكثر أشكاله عنفا، على الخصوص بعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، والذي سمح بظهور انتفاخ إيديولوجي ليبرالي على المشهد العالمي، والسعي إلى إعادة توضيب معالم كل البنى القانونية الدولية، تسمح بتسييل المجهود العولمي، والتي قد لا تتطابق مع تكثر السيادات الدولتية.

وهذا الجهد المعرفي المتناسل في السياسة الدولية، جاء ثمرة تصور دافع عنه الباحث كينيشي أوهماي في كتابه " نهاية الأمة الدولة وانبعاث الجهوية الاقتصادية " حيث خلص إلى أن التشابك الاقتصادي العالمي أخذ يتجاوز حد السيادة الدولتية حيث أنه كفاعل بدأ يفقد آلية التحكم والسيطرة في حركة البضائع والأموال، وبدأت هذه الأخيرة هي التي تتحكم في حركتها الذاتية وتتخذ القرارات المناسبة غفلا عن الإرادة الوطنية.

بل أن المصلحة الوطنية والسيادة الوطنية أضحيا أكبر عائق اقتصادي يمكن أن تواجهه ثقافة السوق الحر، حيث مجمل الكتاب جاء استدلالا على هذه القاعدة، إذ يقول بأننا سنسعى إلى " إثبات لماذا أن الأمة الدولة بمعناها الكلاسيكي أضحت غير طبيعية، ومستحيلة في نفس الآن، أمام الاقتصاد العولمي، ولماذا الدول الجهوية واقعا هي الأكثر كفاءة، والأكثر فعالية في هذا المجال "، ( [5] ) وعاد ليؤكد نفس المقتضى في كتابه " المرحلة الآتية للعولمة " بأن وضع تفسيرا أكثر دقة لمقصده من الدولة الجهوية، حيث جعلها الدول التي تركز على جهويات موسعة داخلها، سامحة بهامش تعاقدي دولي يتجاوز المركزية الإدارية والسياسية في نفس الآن، مركزا على اليابان والهند والصين كنماذج جديدة، وناجحة كفاعلين أساسيين في حركة الاقتصاد العالمي، كما أضحت تتقوم من خلال قواعد السوق الحر. ( [6] )

وطبعا هكذا جهد استتبع آراءا متضاربة بين المتمسكة بهامش فعالية للسيادة الوطنية، وبين القائلة بالزوال الكلي للسيادة الدولتية، من جهة لمن الأولوية في التعاطي هل هي للدولة بوصفها فاعل دولي مركزي سواء في ظل المدرسة الواقعية أو الواقعية الجديدة أو حتى البنائية، أو الأولوية إلى إيديولوجية السوق الحر كما تتبناها المدرسة الليبرالية والليبرالية الجديدة، ويسعى كل تيار إلى الاستدلال على صحة موقفه التنظيري والتشخيصي لدائرة الفعالية لمن تعود، يقول الباحث المغربي سعيد الصديقي " إن ظاهرة العولمة أخضعت هذا المفهوم ( السيادة ) وغيره من المفاهيم الرئيسية في علم السياسة للمراجعة وإعادة التعريف، فأصبحنا نعاصر موجة من الكتابات التي تشكك في المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية القائم على نموذج الدولة التي تراقب بشكل مستقل شكل ومضمون سياستها العامة، وتعتبره إما مفهوما مهجورا، أو أنه ينتمي إلى تقليد مذهبي في طريق الفناء، وإما متجاوز نظريا وغير نافع عمليا، لأن الرهانات الدولية الجديدة والمشكلات غير المسبوقة والحدود الاقتصادية والجمركية التي رسمتها تحولات العولمة لا تتوافق مع الحدود السياسية التي يقوم عليها المفهوم التقليدي للسيادة. " ( [7] ) مما يفرض عليها إعادة النظر في أولوياتها الحديثة في ظل هذه المتغيرات حتى تحافظ على مكانتها كفاعل محلي ودولي.

وهو سؤال محوري وتحدي أساسي، يستلزم معه إعادة النظر في كل المداميك الدولتية من جهة ناظميتها للشأن الوطني، وتدبيريتها للشأن الدولي، بالتركيز على مديات السلطة وأفق التأقلم مع الأوضاع العالمية، باستدخال رؤى قانونية جديدة تغوص في عمق فلسفة الدولة – الأمة، وتناقش أشراط بقائها ولو بعد اضمحلال المرحلة الويستفالية فعليا.

وقد تمدد هذا التصور مباشرة بعد انهيار جدار برلين وسقوط الإتحاد السوفياتي مما فتح فترة فيمارية ثانية، تريد القطع مع المدرسة الوضعانية الأرثدوكسية والاشتغال على منظومة فكرية قانونية طبيعية تتزيى الزي الوضعاني في تفاصيل دقيقة والكل في خدمة المبنى الطبيعي كما طرح في ألمانيا سابقا.

أو ما أسماه المفكر فرانسيس فوكوياما بأنه نهاية التأريخ، أي بانتشار الفكر الديموقراطي الليبرالي في العالم بشكل أوسع، لسنا بصدد تدقيق مبانيه الفكرية، بقدر ما نود الإبانة عنه هو أن تصورا سياسيا بدأ يشق طريقه ليغير معالم العالم على أسس فلسفية جديدة، من أجل قانون شمولي يحكم العالم أجمع طبعا وفق الترتيبات الأمريكية.

ولكي يتسنى تمرير هذه المباني القانونية كان ضروريا إعادة التفكير في مفهوم السيادة الوطنية، وبحث دائرة وجودها من عدمها، بشكل جعل الكثير من فقهاء القانون والخبراء يعيدون النظر فيها كما لو أنها ليست من المباني الأساسية للدول.

ومن هنا فإن الجمهورية الإسلامية شكلت جرحا غائرا إضافيا في العقل الاستكباري العالمي لأنها تقطع مع خصوصية المديات الطبيعية أو الوضعانية، لتتأسس على قاعدة متعالية تهيمن على كلا التصورين، روحية سياسية لا تقع ضحية استدلالات دنيوية وتدافعات منطق المغالبة المادية، بقدر ما ارتكنت إلى منطق المغالبة الغيبية والتي لا تؤثر فيها لا التوجهات البراغماتية ولا التوجهات النفعية، وفي نفس الوقت تجاوزت مضائق الطرح السياسي التيوقراطي الذي يحصن رأس الهرم السلطوي بادعاءات ميتافيزيقية، بل تنزلت إلى الشرعية الشعبية وفق قواعد دينية متعالية تستقرئ التحديات العملية، مما منح هويتها الإسلامية دينامية مبنائية لا تفسح للنقود الغربية بالنفاذ إلى عمق هيكلها السياسي، جعلها تتخلص من متلازمة الصدمة الحداثية كما أرادها المفكر إدريس هاني عندما أكد على ضرورة " تحرير العقل العربي والإسلامي من آثار جروحه الغائرة ونفض غبار الهزيمة والاحتياط وخيبات الأمل التي تجعله عقلا مرشحا لتبني كل أشكال الإختزال الفكري والتنظيري " ( [8] ) فأزمة العقل العربي الإسلامي ذات جنبتين: سيكولوجية متجلية في الإنجراحات والتعبيرات التعويضية والهذيانية، مؤسسة على أساس صدمة الحداثة والهزائم السياسية والعسكرية والتنموية ، وجنبة معرفية متشكلة في المأزق البراديغمي الذي يعيشه العقل والمتأثر حتما بالجنبة السابقة مما يدفعه إلى الهامشية والانفعالية الوجودية ذات التعاقلية السلبية خالصا إلى مقتضى محوري هو أن " ليس له ( أي العقل العربي الإسلامي ) منها اليوم إلا الاستعـارة ( يعني من عقل الحداثة )، بل وأسوأ أشكالها، استعارة خردتها المستعملة. يحدث هذا في السلع والخدمات والقيم والأفكار والتصورات. فالعقل العربي والإسلامي المعاصر إذن، هو في نهاية المطاف ليس له من هذه الحداثة، سوى سقط المتاع" ( [9] ).

ساهمت في قلب موازين القراءات الرسمية للجيوسياسة لدى المدارس الليبرالية.

رجوع الجيوبولوتيك عود على بدء:

الكثير اعتقد بأنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تراجع الزخم الجيوبولتيكي إلى الخلف، تاركا المجال مفتوحا أمام اتساع في الفكر الليبرالي الذي يدك الاختلافات الإثنية والدينية ويتوافق تحت تيمة واحدة وهي " برادايم السوق " بوصفه الإطار المعرفي الأكثر تماسكا لتجاوز هكذا مضائق وجودية.

وبالفعل عمدت المؤسسات الدولية والممثلة للمنتظم الدولي على إعادة قراءتها للعالم على ضوء هذا المقترب، مطالبة بتحرير الأسواق وتليين الثقافات المحلية لتتماهى مع الحدث العالمي الجديد.

ليتم استرجاع الكثير من الأطروحات الفلسفية التي تفتقت عن العقل الجرماني، لأنها من جهة أرادت قراءة حركة التأريخ حكميا، أو لأنها رأت التسيد والعبودية دينامية عقلانية داخلية لا تفقد من وهجها الحقوقي إلا لتزداد توهجا في السقف الفلسفي السياسي.

واقعا يصعب استخراج الفارق بين " الجغرافيا السياسية " و " الجيوبوليتك "، لأن المسألة لا تعدو أن تكون ثمرة تصورات فقهاء وباحثين أعلام في هكذا مجال، إلا أنه ولأسباب أكاديميا سليمة تم فرز معنائي لهذين العلمين، فالدكتور عدنان السيد حسين يرى بأن الجيوبولتيك هي فرع عن الجغرافيا السياسية، لأن الثانية هي مطارحة موضوعية لأثر الجغرافيا على الأوضاع السياسية الدولية، في حين أن الأولى تنطلق من معطيات العلم الثاني، لكنها تطمح لما يجب أن تكون عليه الدول، بمعنى أن الجيوبوليتيك هو مدى معرفي استراتيجي يقوم على الجغرافيا السياسية لكن برؤية تغييرية تهدف إلى تحقيق مطامح سياسية للدول. ( [10] )

وكما يقول والتر راسل ميد فإنه بعد صدور كتاب " نهاية التأريخ والرجل الأخير " للمفكر فرنسيس فوكوياما، هناك من بنى على أصل النظرية للقول ب " نهاية الجيوبوليتيك " ( [11] ) ما دامت الرؤية النهائية هي وحدوية تقوم كما الإيديولوجيا العالمية منهية الصدامات العالمية، وفي نفس الآن قاهرة للمطامح الإقليمية، ذلك أن " السيطرة على المنظومة – العالم تعني بالتعريف أنه لا يوجد سوى قوة وحيدة في وضع جيوبوليتيكي ( الجغرافيا السياسية ) يسمح لها بفرض شبكة ثابتة من التقسيم الاجتماعي للسلطة " ( [12] )

إلا أن الواقع أشد تعقيدا ويؤكد على نشوء ما أسماه ميد مع كثير من الوقاحة ب " محور السوس " axis of weevils القائم على روسيا الإتحادية والصين الشعبية والجمهورية الإسلامية في إيران، والذي يجري مراجعات بنيوية للخلاصات السياسية التي نتجت عن انهيار الكتلة الشرقية، وبأن هذه القوى وفي ظل تلاحم بنيوي تعمد إلى تعقيد الرؤية إلى العالم، إذ أن الجيوبوليتيك الماقبل نهاية الحرب الباردة عاد وبقوة سواء في ملف أوكرانيا أو بمناسبة حالة الفشل الذريع الذي تكبدته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق أو الهيمنة الصينية التي تتعاظم يوما عن يوم، مما جعله يبادر إلى القول بأننا نعيش حالة " غسق " تأريخي، لا نهاية التأريخ ولا بمرحلة ما بعد التأريخ كما حاول البعض أن يروجها لتدارك الهنات التصورية الفوكويامية، لأن الصراعات القائمة فعلا هي صراعات متولدة من أنساق فكرية سياسية مختلفة تماما، وليست ضمن لافتة الفكرة الديموقراطية الليبرالية حتى نتحدث سواء عن نهاية التأريخ أو مرحلة ما بعد التأريخ، فالأمر عند ميد أقرب إلى جيوب إيديولوجية مقاومة لا تخلو من قوة أو فعالية تعمل كالسوس على نخر القوة والرؤية الأمريكية على حد سواء، ليصير الحديث عن " غسق " التأريخ أولى في الاعتبار مع هكذا واقع.

لكن ما أغفله الدكتور ميد هو أن مجمل البحث الفوكويامي المنوه إليه، كان طرحا جيوبوليتيكيا بامتياز ( [13] ) مع فارق أساس هو أنه طرح جيوبوليتيكي عولمي، لا يعير كبير انتباه إلى الخصوصيات الثقافية وتزاحم الهويات الجهوية، فكان خليطا من الاستشراف الهلوسي لأنه أقرب إلى الإيديولوجية بالمعنى الماركسي، أي الأطر المعرفية المغلقة والمانعة من القبض على الحقيقة، وهو ما حاول تداركه بأسلوب نقدي معبر صامويل هنتغتون في كتاب " صراع الحضارات "، واستلاب المؤثرات الحضارية الأخرى من الفاعلية كما لو أنها فقدت دورها نهائيا بالاستتباع، وصار لزاما عليها أن تركب المكوك الأمريكي من جهة أن المغلوب مجبول على تقليد الغالب.

فالمسألة ليست بأكثر من صدام رؤى جيوبوليتيكية وحسب، الطرح الليبرالي رأى بأنه بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ودخول مجموعة من الجمهوريات السابقة إلى حلف الشمال الأطلسي صارت مشروعيته أقوى ك " رؤية جديدة لروح العالم "، في حين أن المكونات الحضارية التأريخية والتي تجر معها عنفوانا متجاوزا للألفية اعتبرت بأنها تعيش مرحلة تأريخية هامة جدا تسمح لها برفع الرأس عاليا، معلنة أنها هنا في العالم، متحولة إلى كينونة في العالم على قاعدة المغالبة والاستحقاق لنيل الاعتراف.

فعودة الجيوبوليتيك إلى حلبة الصراع العالمي فرمل إلى حد كبير الامتداد العولمي بما هو إيديولوجية أعلنت نهاية عصر الإيديولوجيات، وجعلت التأريخ المحلي يعود بقوة أكبر وبمطامح جهوية أفقدت المشروع الدولي صوابه.

ليتحقق اختراق أساسي على مستوى منظومة – العالم كبنية ليبرالية رأسمالية تؤكد على مراجعات حضارية ليست ذات صبغة إيديولوجية بالضرورة، فكل الاختراقات التي أضحت ناجزة تعتمد الخصوصية الحضارية للاعبين الإقليميين في سباق نيل الاعتراف، الذي أرادت له الولايات المتحدة الأمريكية أن ينسد على شرطي " الليبرالية السياسية " و " حرية السوق "، باحثة عن موطئ قدم عولمي مضاد، فإيمانويل فاليرشتاين خلص إلى أن " خيار الخميني أساسا هو حصيلة تراكم السخط أو فورة الغضب من ويلات منظومة – العالم الحديثة والموجهة بعنف ضد المستفيدين والمحركين الرئيسيين لهذه المنظومة، بلدان المركز الغربي في الاقتصاد – العالم رأسمالي. وهذا يعني أن المقصود هنا إدانة الغرب بما في ذلك وربما حتى قيم الأنوار على الخصوص. " ( [14] ).

  • كذلك أضحت لوفيتانا إسلاميا أساسيا يقف في وجه الوحوش الباردة ذوات الوجنتين الحمراوتين، إذ صار المشهد العالم يعيش تزاحما في الرؤى حول " مفهوم العالم " بعضها تضايفي وبعضها تناقضي، وكلها تحولت إلى ماكينات ضخمة تتحكم في سير المعتقدات على الأرض، مما أدى إلى فقدان التوازن التصوري لحركته، وأضحينا أمام سباق محموم نحو الريادة، إنها حقا صراع الإرادات التي أعادت الدينامية في قلب الجمود الجغرافي السياسي، مانحة الكلمة للجيوسياسة كطاقة حركة جديدة تجاوزت اختناقات الجغرافيا، معيدة النظر في النماذج التغالبية برمتها.

 

 


[1] ـ لذلك لم يكن مستغربا أن نجد الفقيه هانس كيلسن يضع كتابا تحت عنوان " النظرية الصافية للقانون " بمعنى أنه تخلص من كل المعارف الإنسانية الغير القانونية ليضع نظريته، على العموم فكرة النظرية الصافية قد أخذها بالكامل عن الإقتصادي النمساوي كارل مينغر الذي وضع النظرية الصافية للاقتصاد، وهذا الأخير في مواجهة غوستاف شمولر، واقعا هما من خلقا صراع المناهج في الاقتصاد في أواخر القرن التاسع عشر لتتسرب إلى العلوم القانونية والسياسية. لمزيد من التوسع بخصوص هذا الصراع الثنائي مراجعة مقالة ماثيو شاربونو.

Mathieu Charbonneau : Le Methodenstreit : plus qu’une « querelle de méthodes » , Serie Notes de Synthéses, fev 2009, Vol 1, N 4 , Centre D’études Sur L’intégration Et La Mondialisation.

[2] - Robert Nozick : Anarchie, état et utopie, tr Evelyne d’Auzac de Lamartine, Quadrige PUF ? p 45. « L’état veilleur de nuit de la théorie classique libérale, limité aux fonctions de protection de tous ses citoyens contre la violence, le vol et la fraude, au respect des contrats passés, etc, semble etre redistributif. Nous pouvons imaginer au moins un arrangement social intermediaire entre le schema des associations protectrices privées et l’etat veilleur de nuit. Puisque l’etat veilleur de nuit est souvent appelé etat minimal. »

 

[3] ـ أمام تعقد كتاب الفيلسوف روبرت نوزيك أنصح القارئ الكريم بأن يراجع كتاب جونثان وولف المسمى " روبرت نوزيك ـ الملكية، والعدالة والدولة ذات الحد الأدنى " لأنه أعاد بسط تصور الفيلسوف بطريقة مبسطة ومكدسة تعفي القارئ من تعقب آراء الفيلسوف المعقدة والمشذرة في مجمل الكتاب، ذلك أنه يطرح الفكرة ثم يمر لأخرى وبعد ذلك يعود لنفس الفكرة ليستكمل النقاش بخصوصها مما يؤدي إلى صعوبة في التعامل لحصر آرائه.

Jonathan Wolff : Robert Nozick – Property, justice and the minimal state,politty press, 1991.

[4] ـ محمد معتصم: مختصر النظرية العامة للقانون الدستوري والمؤسسات السياسية، منشورات إيزيس، الطبعة الأولى سنة 1992، الصفحة 34.

[5] - Kenichi Ohmae : End of Nation State, the rise of regional economies, Harper Collins Publishers, 1996, p, 5.

[6] - Kenichi Ohmae : The Next Global Stage, Challenges and Opportunities in Our Borderless World, Wharton school publishing, 2005, chapter four.

[7] - سعيد الصديقي: هل تستطيع الدولة الوطنية أن تقاوم تحديات العولمة ؟ ضمن عمل جماعي تحت عنوان العولمة والنظام الدولي الجديد ، صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية سنة 2010، الصفحة 119.

  1. - إدريس هاني: الإسلام والحداثة – إحراجات العصر وضرورات تجديد الخطاب، منشورات دار الهادي ضمن سلسلة فلسفة الدين والكلام الجديد. الطبعة الأولى سنة 2005 الصفحة 62.

[9] - إدريس هاني: ن.م الصفحة 63.

 

[10] - لمزيد من التوسع مراجعة كتاب الدكتور عدنان السيد حسين الجغرافيا السياسية والاقتصادية والسكانية للعالم المعاصر صادر عن دار مجد ( المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ) لبنان الطبعة الثانية سنة 1996 ابتداءا من الصفحة 61 وما يليها.

[11] - Walter Russell Mead : the return of geopolitics , the revenge of the revisionist powers, foreign affairs, volume 93 number 3, may/june 2014, p 70.

[12] - عمانوئيل فاليرشتيان: استمرارية التاريخ، تر: عبد الحميد الأتاسي، الناشر دار كنعان، الطبعة الثانية سنة 2003 الصفحة 55.

[13] - Frédérick Douzet, David H. Kaplan: « Geopolitics : la géopolitique dans le monde angloaméricain », Hérodote 2012/3 (n° 146-147), p. 237-252. “Francis Fukuyama (The End of History and the Last Man, 1992), Samuel Huntington (The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order, 1996) ou John Mearsheimer (The Tragedy of Great Powers, 2001) élaborèrent chacun un discours géopolitique offrant un nouveau cadre pour comprendre le monde d’après guerre froide.” p 241.

[14] - عمانوئيل فاليرشتيان: ن.م، الصفحتان 49 و 50.

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article
2
We tend to store with stock options a major array of sheets, solitary bedding addressing a large number of unique functions; many of us provide top quality bow because of the metre or perhaps for Christmas time by list at the same time.
Répondre